Arraf

Select Language

شامبليون وحياة الماعز: تاريخ تجنبوا تكراره!

جريدة المال منذ شهرين

من لا يعلم تاريخه محكوم عليه بتكراره! لذلك يلزمنا التنبه لدروسه، حتى لا تُكرر فى تخميل الوعى الجمعى بحقائق النمو الاقتصادى فى ظل التلاعب الثقافى! على مدار عهود تمثل مصر والسعودية رموزا حضارية وروحية لا يمكن للعالم تجاهلها! مصر كموطن للحضارة المصرية القديمة رمز المعرفة للبشر، بموقعها الجغرافى ومواردها الطبيعية، قوتها البشرية، محصولها العلمى والثقافى، كرمانة ميزان الشرق الأوسط، والحجاز مهبط وحى السماء رمز هداية البشر، وحاضنة الكعبة والمدينة، والسعودية الحديثة بمواردها الطبيعية خصوصا النفط، وثروتها الاقتصادية وثقلها السياسى ككفة ترجيح الميزان، بلدان بطبيعة خاصة غير مكررة، استدعت معاملة أخص من التلاعب الدولى بمصير الأمم! تخيل مستقبل مصر باستثمار وإدارة ناجحة وإيجابية لأرصدتها التاريخية، والحضارية، والثقافية والفكرية، والطبيعية، والبشرية؟ كذلك تخيل مستقبل السعودية باستكمال تطوير ذخائرها الروحية، وبنيتها التحتية، وثروتها القوية، وعقولها الواعية، تدعم اقتصادا عالميا متنوعا يتجاوز النفط، لنهضة تنموية لاستغلال أمثل لمساحتها ومواردها وثروتها وجيوسياسيتها – كيف سيكون شكل المنطقة وحال شعوبها وموازين القوى وتوجهات الاقتصاد العالمى؟ مفهوم المخالفة لإجابة السؤال هو ألا يتحقق هذا الطموح لأسباب كثيرة؟ وبالتمعن نجد أن إستراتيجية تعطيل أو تبطئ أو إعاقة هذا المستقبل، تتركز فى التلاعب “بمسطرة القيم” للبلدين من كرامة وطنية، حفظ التراث والتاريخ، ومعايير النمو! فيأتى تغليل مصر بالديون بكافة توابعها على الاقتصاد والشعب، وضرب مكونات وعيها الجمعى (التعليم، الدين، الثقافة والإعلام)! أما السعودية فرغم معطياتها القوية المانعة للّى ذراعها، إلا أن تنميتها تعتمد واقعيا – خلال عقدين على الأقل – على العمالة الوافدة بكل طوائفها ودرجاتها! (فكيف تدير أصول المساحة والموارد والثروة والمشاريع بدون سواعد تنفذها – ولو تحكمت أو تلاعبت بها – ضمنت سيطرة وتوجيه النمو وبالتبعية القوة؟) من هنا يمكن فهم آثار معادلة تمثال شامبليون وفيلم “حياة الماعز”، كإشارات خفية – قديمة ومستحدثة – للتلاعب الدولى بواقع وطموح الدولتين! فتمثال شامبليون صممه النحات الفرنسى بارتولدي، ويقبع بمدخل السوربون بباريس منذ ١٨٧٥، ممثلا الأثرى شامبليون واضعا حذائه على رأس رمسيس الثانى أعظم ملوك مصر القديمة، فى تصوير عنصرى غير حقيقى لفوقية الثقافة الفرنسية/ الغربية على الحضارة المصرية القديمة، واستعمار ثقافى واقع لآثار مصر حديثا، ورمزية لحرص الغرب على بقاء مصر “تحت السيطرة”! سواء ثقافيا أو اقتصاديا بتكبيلها بالديون مانعة التنمية الحقيقية! أما الفيلم؛ فتلاعب بالقصة الحقيقية للعامل الهندى وخاطفه (وليس كفيله الرسمي)، كتشويه ممنهج ومتدرج لصورة الخليج وتحديدا السعودية، بتُصويرها كبيئة قمعية وغير إنسانية لإثارة الشكوك حول استقرارها الاجتماعى والاقتصادي، كبلد مستقطب للعمالة الوافدة المعتمد عليها تنفيذ تنميتها وطموحها المستقبلى. ولتأصيل هذا الفهم، يلزمنا مراجعة موقف مصر بقضية شامبليون، ورد فعل السعودية من فيلم “حياة الماعز”! بقى تمثال شامبليون فى جفن الزمن حتى 2010 ولم تنجح مصر فى إزالته للآن! رغم غليان الشارع ورفض تام من فرنسا لإزالته، وتعتيم مقصود على محاولات تبصير الوعى الجمعى بالقضية، وأثرها على الكرامة الوطنية ورفعة الهوية وإمكانية استعادة مصر لمكانتها الدولية لحماية كنوزها المنهوبة من استرداد حجر رشيد، رأس نفرتيتي، وغيرها. (هناك زخم من البوستات المصرية المستنكرة، وتشرفت منفردا بكتابة 43 مقالا عن القضية بكافة أبعادها، وأسست المسئولية الفنية التقصيرية للفنان التشكيلى لمحاكمة بارتولدى طبقا للقانون الفرنسى والمصرى وميثاق الأمم المتحدة)! لنجد أن مفهوم ورمزية شامبليون تسللا بخبث لمسطرة القيم المصرية ودخلت فى وعى شعبها – ولو لم يعرف بالقضية – ولكننا جميعا نعيش مأساة رأس الملك تحت حذاء الديون الغربية، والإحباط الشعبى المتزايد، والقتل الثقافى الممنهج، والتعويق التنموي، ليحكمنا تاريخ يتحكم بمستقبلنا، ولا يدخر وسيلة لضمان استمرار السيطرة! استفزنى فيلم “حياة الماعز” – حتى لو كان للتاريخ نصيبا فيه، رغم معالجته وتعديله حاليا بحكمة – لمعرفة مدى وعى الخليج والسعودية بأبعاده وأثره على تنميتها الاقتصادية؟ رؤيتى لا تضخم الحدث او تستهلكه، ولكن كشفت متابعتى لردود أفعال متبادلة غاضبة، قلقة، مُستفزة، تتعرض لبدايات تنمر مقيم ووافد، كبدايات لموجة عاتية قد تهدد تنمية اقتصادية حقيقية إذا لم يتم التصدى لها بوعى كامل! وإلا نكون أنجبنا بصمتنا وعدم تدبرنا “شامبليونا” جديدا، بصورة مطورة لسايكس بيكو اقتصاديا وثقافيا، تنحت واقعا جديدا لباقى القرن الـ 21 وما بعده! فرمزية مصر والسعودية بالقرن الحالي، يعاد تشكيل عناصر معادلاتها بمنتهى الجدية (راجع رؤية ترامب لأموال الخليج وبخاصة السعودية)! وإذا كانت الديون هى ربقة مصر، فحقيقة أزمة العمالة الوافدة هى الربقة الحديثة للخليج والسعودية! لتشتيت نهضتها بمعالجات داخلية وتسويات وفك اشتباك ومساومات إلخ، يحترف فيها طرف ثالث، توظيف الابتزاز العاطفى المتبادل بين العامل والمُضيف، توصلا لحكم تنمية الاقتصاد بمسطرة القيم (الكرامة، الهوية، معايير النمو). وبغير فهمنا لذلك فنحن معرضون لتكرر تخميل الوعى الجمعى بحقائق النمو الاقتصادى فى ظل التلاعب الثقافي! فالخطر لا يقتصر على الهجوم المباشر على الرموز أو الوعى (شامبليون) وترجمة حذائه بالديون والاستغلال الثقافى وإعاقة التنمية، بل يتمثل أيضًا بكيفية التلاعب بالموارد (سواء الاقتصادية أو البشرية) بطرق تؤدى لتعطيل التنمية الذاتية (حياة الماعز)، والنموذجان استخدما القوة الناعمة (الفن التشكيلى والسينما)، لإستراتيجية طويلة الأمد لتحقيق ذات الغرض (الذى تم فعلا بمصر، وبدأ توا بالخليج والسعودية)! لا جدوى من استمرار الغضب، أو التجاهل، أو الجدال، أو التفاعل مع الابتزاز! فاستدراك المخطط يلزمه تطوير علاقات دبلوماسية ثقافية، دعم واع لصناعة سينما وتظاهرات ثقافية بإستراتيجية مستنيرة ورادعة، توظيف قصص ومشاريع التنمية الحديثة فى الدراما، دعم أكبر لحركة الترجمة العربية، استغلال أمثل لتكنولوجيا الميتافرس والواقع الافتراضى لتصحيح الصورة الذهنية للماضى والحاضر واستشراف المستقبل، تعاون ثقافى دولى بانفتاح مدروس يحافظ على هويتنا وسيادتنا الثقافية، استغلال أمثل لنقل التكنولوجيا فى الفن والثقافة وليس مظاهرهما، رصد لمشاكل التاريخ القديم وتوثيق وتسويق محترف لطرق حلها، تأسيس هيئة متخصصة لرصد آثار الفن والثقافة المستوردة على الوعى الجمعى العربى ووضع إستراتيجيات لتفنيدها وصدها، ترقية تواصل حقيقى بين وزارات الثقافة والإعلام العربية لمحاولة وضع إستراتيجية مشروع عربى يستثمر إمكانياتنا وقدراتنا وقضايانا، لخلق قوى ضغط ناعمة موازية تدعم حفاظنا على مسطرة قيمنا من كرامة وطنية، حفظ التاريخ والتراث، وحقنا فى تنمية عادلة. فالتاريخ ليس دورة حتمية، ولكن منهجا للتصحيح حتى لا يتكرر! وصمتنا وعدم وعينا بدروسه يجعلنا محلا لأخطائه، فيرثها أحفادنا بكل تجهيل وتعمية. شامبليون رمز لتاريخ آثاره موجودة ونافذة، وفيلم “حياة الماعز” إرهاصة تاريخية تكتب سطورا جديدة فى سفر التلاعب بالشرق الأوسط، وهو ما يلزمنا تجنب تكراره! فنحن نعيش فى ماضى التاريخ، لكن يجب علينا أن نصنع مستقبلنا!

أخر الأخبار

عرض الكل